Previous Lesson -- Next Lesson
يوحنا - النور يضيء في الظلمة
سلسلة دروس كتابية في إنجيل المسيح حسب البشير يوحنا
الجزء الرابع النّور يغلب الظلمة (١٨: ١- ٢١: ٢٥)٠
أوّلاً: الحوادث مِن القبض على يسوع حتّى دفنه (١٨: ١- ١٩: ٤٢)٠
١- القبض على يسوع في البستان (١٨: ١- ١٢)٠
١٢ ثُمَّ إِنَّ الْجُنْدَ وَالْقَائِدَ وَخُدَّامَ الْيَهُودِ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ وَأَوْثَقُوهُ, ١٣ وَمَضَوْا بِهِ إِلَى حَنَّانَ أَوَّلاً, لأَنَّهُ كَانَ حَمَا قَيَافَا الَّذِي كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. ١٤ وَكَانَ قَيَافَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ٠
لم يقبض اليهود لوحدهم على يسوع، بل الضابط الروماني تقدّم بجنده إلى ابن الله، بعدما ولّى التلاميذ هرباً. والمسيح الّذي هو الرّبّ على الموت والشياطين، وهدأ العاصفة وشفى المرضى وغفر الذنوب، احتمل القيود وديعاً. فالحرّ أصبح أسيراً، والربّ صار مربوطاً مقيّداً. فنحن سبب ذلك بخطايانا القبيحة. وتقييد يسوع يعني احدى الدرجات المرة نحو اتضاعه إلى الدرجة السفلى على الصليب٠
وكان حنان رئيس الكهنة مِن سنة ٦ إلى ١٥ م، واختير لهذا المنصب طول حياته. ولكنّ السلطة الاستعمارية نحت هذا الرجل المشاكس عن كرسيه. وبعده عزلوا أيضاً أبناءه الخمسة بالتتابع، الّذين كانوا مثله مشاكسة وتحريضاً. وأخيراً وجدوا قيافا الثعلب صهر حنان المحامي الماكر، الّذي استطاع أن يساير بفتواه المتعرّجة المحتالة بين متطلبات الناموس (الشريعة) ومطاليب الرومان. فكان قيافا أمكر الماكرين وأكذب الكاذبين، ونبّي الشيطان الّذي طالب بنبوة مزيفة مِن الرّوح الشرّير بموت يسوع والخلاص منه لتبقى الأمة. فأصبحت المحاكمة أمام المجلس الديني رواية مأساوية لادانة المتهم بحكم مزيف ظاهره العدل والحقّ، وارضاء لأعضاء المجلس الديني الّذين ما زالت تؤنبهم ضمائرهم، باقناعهم ان قتله بناء على محاكمة عادلة وأدلّة ثابتة دامغة. ولم يروِ يوحنّا البشير لنا أحداث جلستي المحاكمة الرئيسيتين، اللتين كانتا معروفتين في الكنائس آنذاك مِن الأناجيل الأخرى، بل أبرز أكثر وألقى ضوءاً على التفتيش والاستجواب التمهيدي ليسوع أمام حنان رأس عشيرة رؤساء الكهنة، والّذي كان ما يزال المؤثر الفعلي على كلّ تحركات البلاد. وقد أمر قيافا إكراماً لحميه حنان ان يحول يسوع إليه أوّلاً للاستجواب التحضيري٠
٢- استجواب يسوع أمام حنان وانكار بطرس ثلاث مرّات (١٨: ١٥- ٢٧)٠
١٥ وَكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ يَتْبَعَانِ يَسُوعَ, وَكَانَ ذَلِكَ التِّلْمِيذُ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ, فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. ١٦ وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفاً عِنْدَ الْبَابِ خَارِجاً. فَخَرَجَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ, وَكَلَّمَ الْبَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ. ١٧ فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ, أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تَلاَمِيذِ هَذَا الإِنْسَانِ. قَالَ ذَاكَ, لَسْتُ أَنَا. ١٨ وَكَانَ الْعَبِيدُ وَالْخُدَّامُ وَاقِفِينَ, وَهُمْ قَدْ أَضْرَمُوا جَمْراً لأَنَّهُ كَانَ بَرْدٌ, وَكَانُوا يَصْطَلُونَ, وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفاً مَعَهُمْ يَصْطَلِي٠
كان يوحنّا مع بطرس يتبعان يسوع في الليل على البعد. وبما أنّ التلميذ يوحنّا هو مِن عائلة كهنوتية ولعلّه أحد أقرباء رئيس الكهنة، فقد استطاع الدخول إلى دار الكهنة بلا استئذان. أمّا بطرس فما قدر على الولوج لأنّ الباب كان محروساً بخادمة. وأمامها انتهى اتباع بطرس ولحاقه بيسوع. فلم يقدر أن يدخل الدار بالقوّة، لأنّ ربّه منعه مبدئيّاً مِن استعمال السيف. ولم يرد أن يستسلم بدون مدافعة، لأنّ إيمانه لم ينضج إلى درجة عدم استخدام العنف. فظل مضطرباً مضعضعاً في ذاته، وغير مستعدّ لإنكار النفس وذبيحة الذات٠
وشعر يوحنّا بالصّراع الناشب في صميم بطرس الواقف على الباب في الظلمة، وأراد أن يعينه متوسطاً مع البوابة، وكلّفه عندها وتأبّط ذراعه وأدخله داخلاً. ولم يثق البوابة تماماً بالتلميذ يوحنّا، وتفرّست في بطرس وبادرته بالقول: ألست أنت أيضاً مِن تلاميذ ذاك؟ فهذا السؤال نخز قلب بطرس نخزاً. لقد وصل إلى محور السلطة وعلى عتبة هدفه، وما أراد تخريب مستقبله على يد جارية بسيطة. فقال متظاهراً بلا مبالاة: لست أنا. وتصرّف كأنّه غير عارف شيئاً ولا علاقة له بالقضية. وبهذه الكذبة البيضاء ارتكب كذبة رابية منكرة، وقعد على رأس الزحليطة المسقطة رأساً إلى جهنّم. وبعدئذ حاول الاصطلاء بالنار مع الجند، لأنّ الطقس كان شتاءاً بارداً. ولعلّنا بهذا نرى مثلاً مِن اقترابه إلى النار السفلى، محاولاً الاصطلاء والدفء، لكن قلبه احترق برداً٠
١٩ فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ. ٢٠ أَجَابَهُ يَسُوعُ, أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. ٢١ لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا. اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا. ٢٢ وَلَمَّا قَالَ هَذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً, قَائِلاً, أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ. ٢٣ أَجَابَهُ يَسُوعُ, إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ, وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي. ٢٤ وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ٠
لم يكن الاستجواب التمهيدي دائراً حول ذنب يسوع وشخصيته والاعتراف بذاته، بل حول التلاميذ وطرق تعليمه. وكانت يومئذ أحزاب وفرق سرّية كثيرة موجودة، فأراد المستجوبون الاستنتاج والمعرفة بسرعة، عمّا إذا كان هناك خطر وثورة مِن قبل اتباع يسوع، حتّى يتلافوها ويبطشوا بها حالاً٠
وجاوبهم يسوع بصراحة ان ليس له رابطة سرّية بل انّه دائماً كان يعلّم بوضح النهار علانية في كنائس اليهود التعليمية، وفي الهيكل حيث يتراكض النّاس كلّ حين. ولو أراد زعماء الشعب معرفته حقّاً، لجاءوا إليه وسمعوا تفاصيل أقواله ودعوته. فليس الإنجيل سريّاً بل علنيّاً عالميّاً. وليست عندنا ذنوب ومؤامرات، إنّما سلام وفرح ومحبّة. وهكذا كلّم يسوع رئيس الكهنة الشيخ بلاخوف ولا خضوع مراء، ولم يستعط منه الحياة، لكن تقدّم إليه كملك كأنّه يقول له: لماذا لم تتقدّم إليَّ في الهيكل وتستقبلني أنا ابن الله بسجود، فسمعت رسالتي وآمنت بدعوتي؟
وأحد خدّام حنان أراد مداهنته ونيل احسانه، فضرب يسوع على وجهه. إلاّ أنّ إنساناً ضرب الله! نحن عميان وجهلاء حتّى انّنا لا نرى صورة الله المتجسّدة في يسوع مِن تلقاء أنفسنا. وأمّا المسيح فلم يمت الرجل المخادع ولم يغضب. ولكن بنفس الوقت لم يقلّل مِن جريمة هذه الخطيئة. وحاسب مرتكبها. ولم يحوّل يسوع لهذا الشرس خدّه الآخر ليضربه ثانية، بل طلب منه البرهان لحق الضرب. وإذا بان أنّ يسوع بريء فعليه التأسّف والاعتذار والتّوبة. وهذه الدعوى وجّهها يسوع إلى رئيس الكهنة بطريقة غير مباشرة، لأنّه كان مسؤولاً عمّا عمله الخادم، وقد سمح بهذه الضربة. وأيضاً اليوم مَن يضرب إنساناً بلا حق أو يسمح كمسؤول أن يعتدي اتباعه على البرآء، فهذا يضرب الله في وجهه، لأنّ ربّنا يحبّ الأصاغر ويقول: بما انّكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم. يا ويلتاه مِن دينونة العالم! وبعدما لاحظ حنان أنّ يسوع لم يخضع له، ولكن وقف كقاض أزلي أمامه واستجوبه عن الحقّ والبِرّ والعدل، فإنّ حنان عندئذ أرسله إلى صهره قيافا الثعلب الماكر ليتخلّص مِن مشكلته٠
٢٥ وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفاً يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ, أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تَلاَمِيذِهِ. فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ, لَسْتُ أَنَا. ٢٦ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ, وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذُنَهُ, أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي الْبُسْتَانِ. ٢٧ فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضاً. وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ٠
استجوب رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه. واثنان منهم كانا واقفين في ساحة المكان. وما اعترفا انّهما مِن اتباع الرّبّ. وبطرس الواقف في ضوء لهيب الجمرات بان غريباً. وما تأكّد الخدّام الّذين كانوا معه حول النار، إن كان مِن اتباع يسوع أم لا. فجاوبهم بطرس مرّة أخرى بطريقة تافهة كلاّ كلاّ. ولكنّ قلبه نخزت فيه الشوكة أعمق. فأصبح هائجاً في ذاته مضطرباً مفضلاً الهرب مِن هناك٠
وإذ شكّ به أحدهم وكلّمه بهذا الاتهام تفرّس الجميع فيه، فعندئذ فار دمه. وازداد فورانه لَمّا كلّمه أحد العبيد الواقفين قائلاً: انّي أعرفك. قد رأيتك بعيني هنالك في الجنينة! فوصل الخطر إلى قمته، لأن المتكلّم كان قريب الّذي قطع بطرس أذنه. وما أخبرنا يوحنّا عن لعن بطرس لذاته. ولا صرخته بعدم معرفته يسوع. لكنّه أثبت لنا الحقيقة أنّ مقدام الرسل أنكر ربّه تماماً. وصياح الديك كان كصوت بوق الدينونة في أذن بطرس ويوحنّا. فالحقّ كان مع يسوع انه ليس أحد مِن أمنائه وجد القوّة لآتباعه حتّى الموت. الكلّ زاغوا واخطأوا وكذبوا وأنكروه. ولم يخبرنا يوحنّا شيئاً عن دموع بطرس وندامته كسائر البشيرين، بل اكتفى بابراز حقيقة الانكار، وانّ الديك صاح حالاً لَمّا أنكر بطرس ربّه ثلاث مرّات. ليت ربّنا يمنحك ديكاً صائحاً كلّما تكذب أو تقول كذبة بيضاء أو لا تعترف بربّك وحتّى المبالغة فانّها كذب. فروح الحقّ يريد الحلول فيك. اطلب مِن يسوع لساناً صادقاً وقلباً مستقيماً وذهناً أميناً لأنّ كلّ الكذبة يدخلون جهنّم٠
الصّلاة: أيّها الربّ يسوع المسيح، نشكرك لأنّك أنت الحقّ والصبر والجلال. اغفر لنا كلّ نوع مِن كذب والتواء ومبالغة، وساعدنا لئلا نذهب بطرق خاصّة، ولا نتّكل على أنفسنا. قيدنا في حقك. أنت احتملت قيود البشر فاربطنا بروحك القدّوس لكيلا تتكلّم ألسنتنا بكذبة واحدة بعد. ونفضل العار والعذاب على انكارنا اتباعنا لك. ثبتنا في حقّك وعلّمنا الشهادة باسمك بكلّ تواضع وعزم وحكمة٠
السؤال: ٨- ماذا كانت العلاقة بين يسوع وبطرس أثناء الاستجواب عند حنان؟