Previous Lesson -- Next Lesson
١٠ -- الوَصِيَّة الثَّامِنَة: لاَ تَسْرِقْ
سفر الخروج٢٠: ١٥
لاَ تَسْرِقْ
٠١.١٠ - لمن الأموال والممتلكات؟
في البدء خلق الله السَّماوات والأرض وكل ما فيها. فهو وحده يملك كل العناصر والنباتات والحيوانات وإيّانا أيضاً. الإِنْسَانُ هو خاصَّةُ الله. لم نُوجَد عن طريق الصدفة، بل قد تحققت نعمة الرحمن وأَفْكَاره وقواه في كل مخلوق. الله مالك الكون. له كل الأشياء، حتَّى الفضة والذهب. وله مواهبنا وأملاكنا الَّتي وُضعت تحت تصرّفنا. وما نحن إلاّ وكلاء على الودائع الَّتي أمَّنَنا عليها، ونحن مسؤولون تجاهه عن وقتنا وقوَّتنا ومالنا ومُلكنا الَّذي استودع الرَّبّ لأمانتنا.
ظهرت منذ زمنٍ طويلٍ عَقَائِد ونظريات تُنْكر وجود الله، ويدّعي مؤسِّسُوها وأتباعُها بأنّه لا يوجد روحٌ البتة، وأنَّ كل ما هو موجودٌ قد تطوَّر مِن المادة. ادَّعَت الشُّيُوْعِيّة أنَّ الشعب هو مالك الملك والوجود، وليس الله. وإذا بالحزب، الَّذي ادَّعى رعاية مصالح الشعب، يدفع بالسلطة ومعظم الممتلكات إلى أيدي المسؤولين في هذا الحزب. فمَن كان خاضعاً لأوامر الحزب وَجد نصيباً مِن واردات وملك الشعب. نرى في كل مكان مظاهر تشتُّت شمل الشعب، لأنَّ إقبال الفرد على النظام الجماعي يتضاءل تدريجياً. كان الفرد يَعمل بالحَدِّ الأدنى مِن طاقته الإنتاجيَّة، فَيَنْهب مِن ممتلكات الدولة وأموالها قَدْرَ استطاعته. لذلك حاولت الحكومات في الصين والبُلْدَان الاشْتِرَاكِيّة أن تحفز الأفراد على القيام بأعمال خاصة غير اشْتِرَاكِيّة. واتّضح من الإنتاج الاقتصادي الضئيل نسبياً أنَّ الإِنْسَان لم يُخلق للنظام الجماعي الاشْتِرَاكِيّ. فالإقبال الشَّخصي على العمل أقوى مِن الطاعة بغير اكتراث. لقد خُلِقْنا لنعيش حياةً نتحمَّل فيها المَسْؤُوْلِيَّة أمام الله. وأخيراً، انفجرت ثورة "البيريسترويكا" Perestroika وبادت الأَنْظِمَة الشُّيُوْعِيّة مثل زلزالٍ عظيمٍ مِن أكثرية شعوب الشَّرق الَّتي تحاول الآن أن تنشئ النظام الرَأسمَالِيّ في قلوب سكانها، حيث يصبح الفرد مسؤولاً عَن نفسه وعَن مستقبله.
تسود في الغرب الرَأسمَالِيّة، حيث كل إنسان سيِّد وقته وماله. ليت أصحاب الملايين في الغرب يشعرون بمسؤوليتهم أمام الله، وعندها يتوبون إليه، فيشاركوا العمال الصغار والفُقَرَاء أكثر في ثروتهم.
تختلف الرَأسمَالِيّة، في الواقع، قليلاً عن الشُّيُوْعِيّة في مبادئها الأساسية وأهدافها، فتلتقي النظريتان في إيمانهما بالملكية والمال، وقد كتبت كلٌّ منهما عبارة "الرخاء واليُسر" على رايتها، ولا تفترقان إلاًَّ في طريقة الوصول إلى الملكية والرَأسمَالِيّة، وفي توزيعهما. فيكون إلغاء الملكية الخاصة، في نطاق تنفيذ الاشْتِرَاكِيّة، بالحقيقة سرقة مستترة. غير أن استغلال الفُقَرَاء بواسطة الأَغْنِيَاء والأثرياء خطيئة لا تقل عن خطيئة الاشْتِرَاكِيّة.
يجدر بالمَسِيْحي أن يتَّخذ موقفاً آخَر في هذه المسائل، لأنّه يعرف أنَّ للخالق الأملاك والممتلكات كلها، وأنَّنا لسنا مالكين ولا سادة مستقلين، بل وكلاء مُتَوَاضِعون فقط، فلا شيء يخصُّنا مباشرةً، وكلُّ ما نحصل عليه إِنَّما هو بركةٌ مِن الله؛ ويجب علينا أن نعطي حساباً عن كيفية استخدام مالنا وقوَّتنا ووقتنا.
٠٢.١٠ - المَحَبَّة لله والطَّمَع في المال
قال يَسُوْعُ محذِّراً: "لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيِّدَين. لأنّه إما أن يبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (متَّى ٦: ٢٤). يستحيل على المَسِيْحي أن يتصرَّف باستمرار كأنّه سيِّد ماله، ولا يضع هذا المال تحت تصرف الله، وإلا يكون لصّاً ينهب مِن ممتلكات سيده. مِنْ أَجْلِ هذا تتغير طريقة تصرفنا بمالنا تغيراً جذرياً. فالأثرياء المَسِيْحِيُّون لا يعيشون لأجل أنفسهم، بل يسألون الله جدِّياً ماذا يريدهم أن يفعلوا بالمال الَّذي أمَّنهُم هو عليه.
تحتاج الدول النامية في العالم الثالث إلى تعاون لأن ليست لديها المقدرة التكنيكية على القيام بالمشاريع الضرورية، مثل فتح آبار الماء في جوف الأرض، وتفتقر إلى تصنيع عام لرفع مستوى معيشة الجَمَاهِيْر. تحتاج هذه الدول بالحريِّ إلى التَّبْشِيْر بالإِنْجِيْل ليتغير الإِنْسَان في أخلاقه أوَّلاً. وعِنْدَئِذٍ تنمو فيه الشروط اللازمة لتقَدُّم الحضارة. وعندما يهتدي الفرد إلى الإيمان بوحدة الثَّالُوْث الأَقْدَس يتعلَّم أن يتحمل المَسْؤُوْلِيَّة عن أخيه الإِنْسَان، ويمارس مهنته الخاصة بجهد ودقة، ولا يخجل مِن بذل الوقت والتَّضحية بالمال للمساكين، ولا يتكل شخصياً على مساعدات الآخرين، بل يتحرك ويتعب وينظر إلى المحتاج بمَسْؤُوْلِيَّة المَحَبَّة. لا محيد عن تغيير التفكير الروحي لتحلَّ الأمانة، والنشاط في العمل، والاجتهاد، والقيام بالمَسْؤُوْلِيَّة، مَحَلَّ الفساد، والسرقة، والكسل، والخمول.
يقول الله بوضوح: "لا تسرق!" ويثبت بهذه الوَصِيَّة مِلك الفرد الَّذي ائتمنه عليه. فلا نحسد أحداً على غناه، لأن مَسْؤُوْلِيَّة الغني أمام الله تزداد بازدياد ثروته. لقد أوضح يَسُوْع هذه الوَصِيَّة بقوله: "إنَّ مرور جمل مِن ثقب إبرة أيسر مِن أن يدخل غني إلى مَلَكُوْت الله" (متَّى ١٩: ٢٤). لا يُبرِّرُ غنى الأثرياء السرقة لأحد، فَكُلُّ مَن يسرق يتحمَّل دينونة الله العادلة.
يوجد في الإِنْسَان الشعور الباطني الحي بأنّه لا يحق له أن يأخذ أو يمتلك شيئاً لا يخصه. إنَّ ضميرنا حسَّاسٌ جداً، ويأبه لكل سرقة مهما كانت صغيرة أم كبيرة. وخليقٌ بنا أن نمتحن أنفسنا، فلندقِّق في بيوتنا ومكاتبنا إن كنا نملك شيئاً ما يخص غيرنا. ويليق بنا أن نطلب إلى الرَّبّ أن يكشف لنا كل مال حرام في ملكيتنا. ثم نطلب مرة أخرى إلى يَسُوْع أن يمنحنا الجرأة على أن نردَّ المالَ الغريب إلى صاحبه فوراً، ونطلب منه الصفح والغفران. ليتنا لا نتردَّد في تنفيذ ذلك، لأنَّ المال المسروق يؤثر في علاقتنا بيَسُوْع، ويثقل على ضميرنا. لمَّا سمع عددٌ مِن رجال الشرطة، أثناء اجتماع تبشيري في دولة أفريقية، هذا الطلب بإعادة المسروقات إلى أصحابها، ضحكوا بصوت عالٍ، ونظر بعضُهم إلى بعض بسخرية؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم كان يعرف عن نفسه وعن الآخَر أنّه قد سرق. طوبى للإنسان الَّذي يعرف خطيئته، ويندم عليها حقا،ً ويبغضها، ويتركها، ويعترف بها جهراً، ويعوّض عمَّا سرق أو عمَّا سبَّب لغيره مِن ضرر. إن وجدتَ في ماضيك اختلاساً أو خسارةً سبَّبتها، فارجع إلى يَسُوْع وأَخْبِرْهُ بمشكلتك ليساعدك على حَلِّها بطريقة عمليَّة.
٠٣.١٠ - السَّرِقَة الحَدِيْثة
عندما نسأل أنفسنا ما هي السرقات في أيامنا؟ ندرك أنّها ليست سرقة أموال نقداً باليد الممتدة فحسب، بل هي أيضاً الاختلاس مِن بضائع اؤْتُمِنَّا عليها، أو التباطؤ في ممارسة العمل، وإضاعة الوقت في أحاديث شخصية أثناء وقت العمل. إنَّ كل نوع من الغش سرقة. مَن يعرض بضائع فيها نقص أو علة للبيع بأسعار عادية أو بأسعار باهظة يخدع المشتري. وغالباً لا تتناسب قيمة البضاعة والسّعر المحدَّد لها. ويُعتبر غشًّا تقديم معلومات خاطئة أو ناقصة لدائرة الضرائب، لأنَّ مَن يقدِّم مثل هذه المعلومات يتهرب بذلك مِن دفع الضرائب القانونية. هنالك حيل وأساليب لا تحصى ولا تُعَدُّ للغش والسرقة أثناء العمل والمعاملات الاقتصادية. من لا يعيش في حضرة الله، يعرِّض نفسه لخطر الاختلاس والكسل، ويُذْنب في حق الله والناس.
وينطبق امتحان الضمير هذا على أصحاب العمل أيضاً عندما يستغلُّون العاملين معهم ويحثُّونهم على العمل السريع فوق طاقتهم، دون أن يدفعوا لهم الأجور المتَّفَق عليها سابقاً. ويُعتبَر الدَّائن سارقاً عندما يطلب فوائد كبيرة جداً. ومِن ناحية أخرى، يُذْنب البعض في حق أنفسهم عندما تتراكم عليهم ديونٌ يعرفون أنّهم لا ولن يقدروا أن يُسدِّدوها. ثمَّة إمكانياتٌ أخرى للسرقة العلنية أو الخفية. مَن لا يدرِّب ضميره على استقامة الرُّوْح القُدُس يقع في خطر فقدان برّه وخلاصه بواسطة الطمع إلى المال والممتلكات. يقول لنا الرَّسُوْل بُوْلُس بصراحة: "لا سارقون ولا طماعون يرثون مَلَكُوْت الله" (١ كُوْرِنْثُوْس ٦: ١٠).٠
تطوّرت السرقة في مجتمعنا الحَدِيْث إلى أشكال جديدة. فيستعمل البعض جهاز الهاتف الرَّسمي للمكالمات الشخصية. تُغري المعروضات المتنوِّعة في متاجر البيع الكبرى "السُّوبر ماركت" أصحابَ اليد الطويلة بالسرقة. وإنَّ سرقة السيارات في المدن الكبرى تجري على قدم وساق، وتزدهر التجارة بالمخدرات على حساب المدمنين المساكين. يريد هؤلاء اللصوص أن يحصلوا على المال الكثير بسرعة، بصورة مشروعة أو غير مشروعة، ويستغِلُّون المقيَّدين بالمخدّرات الَّذين بدورهم يسرقون مراراً المبالغ الفاحشة ليدفعوا ثمن المخدّرات المميتة لأنفسهم تدريجياً. وإنَّ بَيع المعلومات والعناوين المخزونة المبرمجة في أجهزة الكمبيوتر تشكِّل نوعاً آخَر مِن سرقة الأموال الغربية.
مَن لا يقبل مِن يَسُوْع عطية القلب الجَدِيْد تجذبه الرغبة في الغنى والحسد الَّتي هي أصل كل شر. مَن يجعل امتلاك الأموال هدفاً لحياته يفقد نفسه، فتصبح تصرفاته قاسية وجافة، وأحياناً بلا رحمة. وعندها يَأْتَمِرُ حرصه، حتَّى في أعماق وعيه الباطني، بوجهة النظر المالية، ويصبح المال محورَ حياته، وليس فرحُ الرَّبّ قُوَّتَه.
إنَّ أولئك الَّذين يسعون وراء الغِنَى والثَّراء يقعون في حبال التجارب الممدودة لهم. لقد فضَّل يَسُوْع أن يعيش فقيراً على أن يقع في خطر الغنى. لم يكن له أين يسند رأسه. كان يهوذا الخائن لصّاً، وكان صندوق المال عنده (يُوْحَنَّا١٢: ٦). اشتغل الرَّسُوْل بُوْلُس بيده بجدٍّ وكدٍّ، لأنّه لم يُرد أن يفرض نفسه على أحد. لم يشتغل لكسب معيشته الخاصة فحسب، بل أعال أيضاً المشتركين معه في الخدمة، ليكرّسوا كل أوقاتهم لنشر كلمة المَسِيْح.
٠٤.١٠ - العَمَل والتَّضحيَة
يجب على بعض المُؤْمِنِيْن أن يغيّروا موقفهم مِن المال والعمل. لأن لا التسوّل ولا انتظار معونة الآخرين يؤمّن دخلاً كافياً. تتضمَّن الطلبة الرابعة في الصَّلاَة الرَّبَّانِيَّة: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" الدُّعاء المطمئن بأنَّ أبانا السَّمَاوِيّ يمنحنا عملاً مناسباً، ويباركنا في ممارسته. ويليق بنا أن نصلِّي مِنْ أَجْلِ مكان عمل موافِق، ومِنْ أَجْلِ الصِّحة لممارسة مهنتنا بإخلاص وصبر، حتَّى ولو وجدنا صعوبات مع المدير ومع الزملاء في العمل.
مَن يعِش تحت إرشاد الله، ويشتغل باجتهاد، لا يضطر للسرقة، ولا إلى طلب الصَّدقة، لأنّه يتبارك، وينال الكفاية لمعيشته ومعيشة أهل بيته، ويستطيع فوق ذلك أن يساعد المحتاجين، ويتبرّع ممَّا ائتمنه الرَّبّ عليه لانتشار الإِنْجِيْل. "مغبوطٌ هو العطاء أكثر مِن الأخذ" (أَعْمَال الرُّسُل٢٠: ٣٥؛ أَفَسُس ٤: ٢٨؛ ١ تَسَالُوْنِيْكِي ٣: ١١).٠
التقى يَسُوْع مرًَّة بشاب غني. كان هذا تقيّا،ً وحفظ الوَصَايَا العَشْر بأمانة. أحبّه الرَّبّ وأراد أن يساعده ليتحرّر مِن ارْتِبَاطَاته الخفية، فقال له: "إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعطِ الفُقَرَاء، فيكون لك كنز في السماء" (متَّى ١٩: ٢١). فلما سمع الشاب هذه الكَلِمَة مضى حزيناً لأنّه كان ذا أموال كثيرة. وبعدها تركَ يَسُوْع. ينبغي لنا أن نمتحن أنفسنا، مِن حين إلى آخر، لنرى هل اتّباعُ يَسُوْع هو مهمَّتُنا الأُولى، أم أنَّ رجاءنا وكياننا مُنْصَبَّان على أملاكنا، أو على ودائعنا في البنك، أو على مكان عملنا، أو صحَّتنا (مَرْقُس ١٠: ١٩؛ لُوْقَا ١٨: ١٠). يريد يَسُوْع أن يحرِّرنا مِن روح الاتّكال على المال، لنسلّم أنفسنا لله الآب كلياً، ونجعل التضحية فحوى حياتنا، ونساعد الآخرين عملياً بفرح، كما ضحّى يَسُوْع بنفسه فديةً عن الكَثِيْرِيْن. يريد الرَّبّ أن يحرّرنا مِن الاتكال على المال، ويقوِّي ثقتنا في شخصه.
كان أعضاءُ الكَنِيْسَة الأُوْلَى مرتبطين بعضهم ببعض في شركة روحية وثيقة، مُنْتَظِرِيْنَ مجيء المَسِيْح القريب؛ فباعوا أملاكهم كلها، وعاشوا معاً مِن الإيراد. وظهرت في طريقة محبّتهم الاشْتِرَاكِيّة المَسِيْحِيَّة الاختيارية الَّتي لم تتكرر فيما بعد، والَّتي تختلف عن الشُّيُوْعِيّة الإجبارية اختلاف الماء عن النَّار. وهذه الاشْتِرَاكِيّة المَسِيْحِيَّة لا تقارن بحركة "الكيبوتس" في الأراضي المقدسة حيث تمارس الاشْتِرَاكِيّة بروح افتداء الوطن. ويثير هذا النوع مِن الاشْتِرَاكِيّة مسائل ومَشَاكِل خطيرة، مثل قلة مَسْؤُوْلِيَّة الفرد أو علاقات الجنسين بعضهما ببعض، أو زوال نظام العَائِلَة وتربية الأَوْلاَد على الطريقة الاشْتِرَاكِيّة.
أمَّا الكَنِيْسَة المَسِيْحِيَّة الأُوْلَى فلم تستطع المحافظة على مستواها الاجتماعي والروحي طويلاً. لقد افتقر الأعضاء المُؤْمِنُون، إذ لم يأتِ المَسِيْح حالاً كما كانوا يترقّبون. وعندما اجتاحت الأرضَ مجاعةٌ كانوا تحت وطأة ضيق شديد. كان الرَّسُوْل بُوْلُس المعين مِن الرَّبّ الَّذي جمع تبرّعات ضخمة مِن الكَنَائِس المَسِيْحِيَّة الحَدِيْثة في بلاد اليونان، وفي منطقة آسيا الصغرى الَّتي تدعى اليوم تركيا، وقدَّمها إلى الكَنِيْسَة الأُوْلَى بأورشليم.
لقد غيّر رسول الأمم معنى العمل وتقديره مِن جذوره، حين جاءنا بشعارٍ جديدٍ للعمل، فقال: "كُلُّ مَا فَعَلْتُمْ فَاعْمَلُوا مِنَ الْقَلْبِ كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاس"ِ (كُوْلُوْسِّي ٣: ٢٣). ومنذ ذلك الحين يُعتبَر كلُّ عمَل شريف عبادةً لله في قيمته. فإنْ خدمت أمٌّ أَوْلاَدها، أو قامت جاريةٌ بتنظيف البيت، وإن كنس عاملٌ رصيف الشارع، أو وعظ قسٌّ يَوْمَ الأَحَد، فكلُّ عمل صالح هو خدمةٌ مباشرةٌ لله. ويليق بنا أن نمتحن أنفسَنا ونتساءل: لِمَنْ نشتغل؟ هل نخدم أنفسنا، أو عائلاتنا، أو ربَّ العمل، أو الدولة، أم نعيش لله؟
٠٥.١٠ - الإسلام والملكيَّة
يُثبت الإسلام حقَّ الخالق في مخلُوْقَاته، ويوافق المسلم على الملكية الشَّخصية الَّتي وكلها الرَّبّ لِلإِنْسَان. ويَعتبر الممتلكات نعمة وأجرة مِن الله لمن مارس الصلاة بانتظام، وعاش حسب الشَّرِيْعَة بدقَّة. إنما لا يعيش الإِنْسَان الشَّرقي عادةً كفردٍ منعزلاً، بل كعضو ينتمي إلى رابطة عشيرته. وتملك العَشِيْرَة بجملتها العقارات، وينابيع البترول، وآبار المياه، وتسيطر عليها منذ أجيال. وكانت العَائِلَة الملجأ الأمين الَّذي يلجأ إليه المسنُّون، والمرضى، والمَعُوقُون، والفاشلون، وحتَّى المجرمون. لم يكن الضَّمان الاجتماعي، والتأمين على الحَيَاة، في الشرق الأوسط، حتَّى زمن قريب، ضروريَّيْن. ولكن لما حلّ عصر التكنولوجيا، تطوَّر الفرد المنعزل، مع ذوبان الشخصية في الجَمَاهِيْر، وأصبحت المُنَظَّمَات الخيرية ومؤسسات المجتمع الحَدِيْث ضروريةً.
تُمَوَّلُ المساجدُ والمقاصدُ الإِسْلاَمِيّة بزكاة وصدقات أرباح الوقف، وتُصرَف هذه الأموال والثروات مباشرةً دون رقابة الدولة، لأنّها صدرت مِن فرائض دينية، كأنّها تمهِّد طريقاً للمؤمن إلى الجنة. فمَن يبني مسجداً على الأرض يظن أنّه سيحصل على قصر في الجنَّة.
لَمَّا بدأ الإسلام ينتشر في أوَّل عهده، أصبح توزيع الغنيمة الغزيرة على المقاتلين في الجِهَاد المقدس وسيلةً لكسب المغلوبين المتردِّدين إلى الإسلام. استخدم مُحَمَّد هذا الأسلوب مع "المؤلَّفة قلوبهم". مَن لم يقبل الإسلام، ولم يكن مِن أهل الكتاب مَسِيْحياً أو يهودياً، كان يُقتَل أو يُستعبَد. وكان العبيد، حسب القُرْآن والشَّرِيْعَة، ملكاً للمُسْلِمِيْن. وكانت بنات العبيد اللواتي في سنِّ الزَّوَاج تحت تصرّف سادتهن بموافقة والديهنَّ الَّذين كانوا أيضاً ملكاً للسادة أنفسهم. وقد ازدهرت تجارة العبيد والكفَّار مدة طويلة في الإسلام. لم يخجل سكان أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية مِن أن يستوردوا هذه الأيدي العاملة الرخيصة بكميات وفيرة. ولكنَّ حروب التَّحرير في الولايات المتحدة الأمريكية، وكفاح الإنكليز ضد تجارة العبيد، وضعَت حَدّاً لحركة خطف الناس وبيعهم وشرائهم في أسواقٍ دوليَّة.
٠٦.١٠ - عقوبات الشَّرِيْعَة الصَّارمة على السارقين
شرّع الإسلام عقوبات صارمة بحقِّ السارقين. ففي حال إثبات تهمة السرقة تُقطع في المرَّة الأُوْلَى (حسب الشَّرِيْعَة) يد السارق اليمنى، وفي المرَّة الثَّانِيَة رجْلُه اليسرى. وقد خفَّت السرقات نتيجة العقوبات الصارمة. فالسرقات في البُلْدَان الإِسْلاَمِيّة أقلُّ مما هي في البُلْدَان الأخرى. إلاّ أنَّ الوسيلة للاحتفاظ بالحقّ هي الخوف المحض. ومع ذلك تحدث سرقاتٌ مراراً وتكراراً في إيران والسودان وفي بلدانٍ إسْلاَمِيَّةٍ أخرى تؤدِّي إلى قطع الأيدي والأرجل علناً. أَذِنَ "الخُمَيني" باستعمال مقصلة لقطع يد السارق دون تخدير، على أن تُترَك جراح الذراع ريثما يتوقَّف نزف الدَّم مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِه. وكانت سلطة الشَّرِيْعَة في السودان قد أوقفت عقوبة قطع يد السارق مدة أربع سنوات. فانضمّ ١٢٥ مِن مبتوري الأيدي إلى جمعية المَعُوقِيْن الخاصَّة. وها هم يطالبون الحكومة بدفع تعويض ومعاش التقاعد، لأن أيديهم قُطعت بموجب قانون أُوقِف مفعوله.
وهنالك ٢٦ رَجُلاً قُطِعَت أرجلهم اليسرى أيضاً لأنّهم سرقوا للمرة الثَّانِيَة. وقد عرضت مجلة "السودان الآن" صورة رجال كثيرين بأيدٍ مبتورة. فالعقوبات الصارمة، حسب الشَّرِيْعَة، لا تُصلِح نيّة السارق، بل تجعله عاطلاً عن العمل، وتُذكِّره دائماً بذنبه؛ وقد يكون عرضةً لنظرات شامتة مِن الناس، مما يزيد في عنفه. يسود في السودان الاعتقاد أنَّه لو قُطِعَت اليد اليمنى لكلِّ مَن يسرق، لما بقي أحدٌ في البلد بيَدَين سَلِيْمَتَين. إنِّ الشَّرائع الَّتي كانت سائدة في زمان حمورابي (١٧٩٣-١٧٥٠ ق.م) لا تَصْلُح، بل ولا تُطاق في زماننا الحاضر.
٠٧.١٠ - كيف تغلّب يَسُوْع ورُسُله على السَّرقة عند أتباعه؟
لقد أعلن يَسُوْع طريقاً أفضل للغلبة على السرقة، فهو لم يُلغِ عقوبات الدولة بحق السارقين، بل تحمَّل عقوبة الموت الأبدي المرتَّبة مِن الله على كل السرقة عوضاً عن الجميع. وإننا بدافع الشُّكْر، لأجل تضحيته وآلامه عوضاً عنا، لا ولن نمد أيدينا لسرقة أموال غريبة.
لقد حرّرنا يَسُوْع مِن روح السرقة بواسطة روح الحقّ، ومنحنا ثقةً جديدةً بالله أبينا المهتم بنا، لنطلب منه مهنةً محترمةً للعمل، وصِحَّةً لكسب الخبز اليَوْمِيّ، كما نطلب في الصَّلاَة الرَّبَّانِيَّة. لا نغرق في الهموم، لأننا نعلم يقيناً أنَّ أبانا السَّمَاوِيّ يهتمّ بنا شخصياً، ولا يتخلّى عنا؛ وبهذا يتحقق فينا القول الرَّسُوْلي: "لا يسرق السارق في ما بعد، بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يُعطي مَن له احتياج" (أَفَسُس ٤: ٢٨).٠
لقد منح يَسُوْع أتباعَه قلباً جديداً، حيث لا يرون معنى الحَيَاة في المال والمُلك، بل في الحَيَاة الرُّوْحِيَّة الَّتي رباطُها المَحَبَّة والشُّكْر. لقد حرَّرنا ربنا مِن البخل والحسد. ويُعلمنا أنَّ كل غني يقضي حياة خطيرة، لأنَّ قوَّة امتصاص المال هائلة، إذ تحاول أن تخضعه تحت نفوذها، إنْ لم يكن قد وقع في أسْرها. فيليق بنا أن نضبط صرف المال، ونُعطي اللهَ وأنفُسَنا حساباً عَن كل فلس صرَفْناه، لأننا وكلاء، ولسنا أصحاب المال والملك.
يَنظر المؤمن بالمَسِيْح نظرةً جديدةً إلى الفُقَرَاء، ويخطِّط لكيفية مساعدتهم، حتَّى ينمو فيهم الشعور بالمَسْؤُوْلِيَّة عن أنفسهم، فيعملون باجتهاد واستقامة، ويستقلّون في الوقت نفسه عن الآخرين. ويجب علينا أن نبحث عن طرق حكيمة لمساعدتهم كي يستطيعوا أن يساعدوا أنفسهم. إلاَّ إذا كان أحدٌ لا يقدر أن يشتغل فعلاً بسبب مرضه. وإن كان منفرداً بدون عَشِيْرَة خاصة، فهو يستحق المعيشة المنتظمة مِن أعضاء الكَنِيْسَة. وإنْ كان أحدٌ لا يستطيع أن يتحمَّل وحده حِمْلاً كهذا، فيجب أن ينضم إلى أصدقاء متعاطفين ليساعدوا معاً المعوزين لمدة طويلة. "فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ فَذَلِكَ خطيئة لَهُ" (يعقوب ٤: ١٧).٠
لقد أصبحت محبَّة الله، وليس الخوف مِن العقاب، الشِّعار الحافز في حَياة المَسِيْحي. فالدَّاِفعُ لتصرُّفاتنا هو الشُّكْر لأجل الذبح العظيم على "الجلجثة"، وليس تكديس الأعمال الصالحة لمحو الخطايا. نَشكر يَسُوْعَ لأنّه حرَّرنا مِن السرقة والكسل واللامبالاة، ودفعنا إلى الإحسان، والاجتهاد، والأمانة في القليل، والقناعة. ويقودنا إخلاصه لنا إلى إخلاصنا نحن أيضاً له. وقد فتحت تضحيته لنا أعين قلوبنا لنلاحظ قريبنا، ونبذل أنفسنا مضَحِّين بوقتنا ومالنا لِمَنْ يحتاج إلينا. لم يُغيّر يَسُوْع أوضاعَ الملكية على الأرض غَصباً، بل غيَّر أذهان أتباعه الَّذين قبلوا منه مبدأ حياته الخاص: "إنَّ ابن الإِنْسَان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم، وليَبذل نفسَه فديةً عن كثيرين" (متَّى ٢٠: ٢٨).٠